الثلاثاء، 10 مايو 2016

الإشباع العاطفي


 إن الإنسان في جميع مراحل عمره بحاجة شديدة إلى الحب والعطف والحنان ، وهذه الحاجة الإنسانية تمتد من الولادة إلى الممات ، وفي صغره يكون أشدّ حاجة إلى الشعور بالمحبة والعطف والحنان حتى ينشأ سوياً متوازناً يشعر بالهدوء والدفء والأمان ، والطّفل يحتاج إلى الحبّ ويشعر به من يومه الأول ، وذلك عندما تضعه أمه الحنون على صدرها فيسكت وينقطع بكاؤه وتهدأ نفسه ، ولذا فإنّ من حكمة الله -سبحانه و تعالى - و رحمته بهذا الطفل الرضيع أن جعل غذاءه في صدر أمه لتضمّه إليها وتغدق عليه من دفئها وحنانها وعطفها قبل أن ترويه من لبنها ، وهكذا يستمر الطّفل ينهل من عطف أمه وحنانها من صدرها وذراعيها ونظراتها الحانية.

وقد أظهرت كثير من الدّراسات العلميّة أنّ الطّفل كلما عاش في حياة مليئة بالمحبة والمودة في طفولته كان ذلك أدعى - بإذن الله - إلى استقرار حالته النفسية في جميع مراحل حياته ، وأنّ حرمانه من العاطفة والحنان في طفولته قد يؤدّي إلى عدم استقرار وضعه النّفسي سواءً في طفولته أو مراحل عمره الأخرى.

ولذلك فإنّ على الوالدين وجميع المربين أنْ يركزوا على هذا الجانب المهم وأنْ يمارسوا هذه المهارة ، أعني إشباع الجانب العاطفي لدى الأطفال ، وذلك يكون بأمور كثيرة منها : كثرة الضم والاحتضان و التقبيل ، وكذلك المسح على بعض أجزاء جسد الطفل كالكتف والظهر و الشعر ، ولعلّنا لا ننسى هنا وصية النبي - صلى الله عليه و سلم - بالمسح على رأس اليتيم وما في ذلك من الأجر العظيم ، وكذلك يكون الإشباع العاطفي بالابتسامة الحانية الصادقة في وجه الطفل ، وكذلك بالتعبير اللفظي عن المحبة والمودة لهذا الطفل ، ومما يزيد شعور الطّفل بالإشباع العاطفي الهدية ، خاصة إذا كانت مما يحب الطفل وبدون مناسبة ، وإنما لمجرّد التعبير عن المحبة التي يحملها أحد الأبوين له في قلبه.

وللأسف الشّديد فقد انتشر الجفاف العاطفي في بعض المجتمعات ، بل أصبح أحياناً التلفّظ بمصطلح الحب والعاطفة من الجرائم التي لا تغتفر ، فأصبح بعض الآباء لا يكادون يُظهرون محبتهم وعاطفتهم لأبنائهم ، ونحن نعلم أنّ قلوب الآباء والأمهات مليئة بالمحبة والعطف لأبنائهم ، ولكنّ الإشكالية في عدم التعبير عن ذلك وفي عدم إخراجه حتى يراه الأبناء ويلمسونه في حياتهم.

      وليس معنى الإشباع العاطفي – كما قد يحتج البعض – أنه التدليل وعدم الحزم مع الأبناء ، فليس هذا صحيحاً ، وإنّما هو مشاعر وعواطف متدفّقة للأبناء ، وليست مشروطة بشرط ولا قيد ، وهذا لا يعني الخضوع التام لطلبات الأبناء وتلبية كل ما يطلبون ، ولا يعني أيضاً أنّ الطفل لا يعاقب إذا أخطأ ، فليس هناك تعارض بين الإشباع العاطفي وبين أن يكون للطفل حدود واضحة يلتزم بها ولا يتجاوزها ، وكذلك فإنه إذا أخطأ يعاقب بالعقاب المناسب ، ولا يتعارض هذا أبداً مع الإشباع العاطفي.

    وبعض الآباء أو الأمهات يرى أنه لا يجد الوقت الكافي لهذا الأمر ، خاصّة مع كثرة أعباء الحياة اليومية وكثرة الأبناء – أحياناً – ولكني أقول : إننا لن نكون أكثر انشغالاً من نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد كان قائد الأمة ونبيها ورسولها وحاكمها وقاضيها ، ومع ذلك فقد كان يجد الوقت لمداعبة وملاطفة الأطفال وتقبيلهم و حملهم ، فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يصلّي بالناس وهو يحمل أمامة بنت زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها ، كما رواه مسلم عن أبي قتادة رضي الله عنه ، بل كان عليه الصلاة والسلام يصف من لا يُقبّل الأطفال ويلاطفهم بأنه لا رحمة في قلبه ، فعن عائشة رضي الله عنها قالت : جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم – فقال : (أتقبلون صبيانكم ؟! فما نقبلهم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (أَو أملك أن نزع الله من قلبك الرحمة) ، فلا تكن أخي المربّي ممّن لا يرحم الأطفال ، بل عليك بالاقتداء بنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - في رحمته وشفقته ولطفه مع الأطفال.

وليعلم جميع المربين أنّ الطّفل يلاحظ ويشعر بهذه المشاعر و الأحاسيس ، سواءً عبر عن ذلك أم لم يعبر ، فهذا أحد الأبناء وقد تعود من أبيه أنه يصافحه كلّما عاد إلى المنزل ، وذات مرّة وعند دخول الأب إلى المنزل وبدلاً من أن يصافح أبناءه كعادته عانقهم بحرارة وعاطفة الأبوة ، فقال له هذا الابن ببراءة الطفولة : "يا بابا أنت اليوم تحبنا أكثر من كل يوم "  فانظر - أخي القارئ - كيف استشعر هذا الطّفل زيادة الحبّ والعاطفة مع وجود العناق والاحتضان أكثر من مجرد المصافحة.

ومن الأمور الهامّة التي يغفل عنها بعض الآباء والأمهات أنّ الحبّ والعطف والحنان والإشباع العاطفي يجب ألاّ تكون مشروطة بشرط ولا مقيّدة بقيود ، لذلك فلابدّ أنْ ننتبه لبعض الممارسات التي نقع فيها أحياناً ،  مثل : أن نقول للطفل إذا أخطأ : (نحن لا نحبك لأنك فعلت كذا) أو أن نقول : (إذا فعلت كذا فنحن نحبك) إنّ هذه ممارسات خاطئة. ينبغي أن نعطي الحبّ والعاطفة لأبنائنا بدون قيد ولا شرط.

ومن الأمور الملحوظة في كثير من الأسر أنّ الاهتمام العاطفي والمداعبة والملاطفة تكون للطفل في مرحلة طفولته المبكرة فقط ، ولكن إذا تقدّم في العمر بعض الشيء ودخل المدرسة مثلاً أو بعد ذلك بقليل فإننا نجد أنّ الإشباع العاطفي يقلّ وينحسر كثيراً ، حتى إنّ بعض الأبناء إذا بلغ العاشرة أو تجاوزها لا يجدُ القُبلة والاحتضان إلاّ في الأعياد والمناسبات ، بل كما قال بعض الآباء حتى في الأعياد قد لا يجدونها ، وهذه من أخطاء بعض الآباء ،وقد أشرنا إلى أنّ الحاجة إلى الحبّ والعطف والحنان تبدأ مع الطفل منذو ولادته ولا تقف إلى نهاية حياته.

لذا فإنّ ضعف العناية بهذه المهارة (الإشباع العاطفي) ، وحرمان الأبناء والبنات من العاطفة ومن الحبّ والحنان يؤدي إلى نتائج سلبية كثيرة منها:

·   أنّ يكون الطفل عرضة للمشكلات النفسية والسّلوكية أكثر من غيره ، فبسبب الحرمان العاطفي قد يظهر لدى الطفل العناد والعنف ، وقد يحصل لديه التبول اللاإرادي ، وقد يؤدي به هذا الحرمان إلى مصّ الأصابع ، أو التأتأة في الكلام ، وقد تظهر عليه ملامح الحزن والكآبة أو التوتر والقلق وسرعة الانفعال ، إلى غيرها من الاضطرابات الكثيرة التي قد تنشأ عن الحرمان العاطفي.

·       قد ينشأ الطفل غير قادر على محبة الآخرين مما قد يجعله عدوانياً أو انطوائياً.

·   أن يبحث بعض الأبناء عن إشباع هذه الحاجة بطرق غير مشروعة ، فعندما يفتقدون العاطفة داخل أسرتهم فإنهم سيبحثون عنها خارج أسوار المنزل.

     فعلى الآباء وجميع المربين أن يغدقوا على أطفالهم من أنهار الحب والعطف والحنان ، بل عليهم أن يغرقوهم في بحور من المودّة والعاطفة الدافئة الحانية حتى يكون ذلك – بإذن الله – من أسباب استقرارهم النفسي و السلوكي ، وكذلك عليهم أن يستثمروا هذه المهارة في التعامل مع جميع المشكلات السلوكية لدى الأبناء ، فهي - بإذن الله – وسيلة وقائية من كثير من الاضطرابات السلوكية ، وكذلك تسهم في علاج جميع الاضطرابات السلوكية لدى الأطفال.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق